الحرم المكي الشريف يظل القلب النابض للمسلمين في كل أنحاء العالم، حيث تتداخل فيه مشاعر العبادة والسكينة والقدسية، وبينما يرتبط الإفطار الجماعي عادةً بأيام رمضان المباركة، فإن مشهد إفطار الصائم في الحرم لا يقتصر على ذلك الشهر وحده، بل يمتد على مدار العام وخاصة في أيام الاثنين والخميس، وهي الأيام التي وردت في السنة النبوية كأيام كان الرسول صلى الله عليه وسلم يكثر فيها من الصيام. هذا المشهد المتكرر قبل رمضان يعكس جانباً عميقاً من الارتباط الروحي بالحرم، ويمنح الزائر شعوراً بأن روح رمضان حاضرة في كل أسبوع من أسابيع العام.
مائدة بسيطة بروح عظيمة
حين يقترب وقت المغرب في الحرم المكي، يبدأ زوّار بيت الله الحرام من الصائمين بالتحلّق في مجموعات هادئة على أرضيات الرخام البيضاء، وتوضع أمامهم وجبات الإفطار البسيطة المكونة غالباً من تمر وماء وحبات من الخبز أو الفاكهة، وعصير ولبن، بساطة المائدة هنا ليست مجرد عفوية، بل هي انعكاس لجوهر العبادة وروح المشاركة، الأيدي تمتد لتوزيع التمرات والماء بين المصلين دون تفرقة؛ الكل هنا صائم لوجه الله، والكل يتشارك أول لقمة بعد نهار طويل من الطاعة، وهذا التماهي الإنساني العميق يذكّر الحاضرين بمعنى المساواة والوحدة الإسلامية التي يتجلى أبهى صورها في مكة المكرمة.
روحانية صيام التطوع
ما يميز هذه العادة الأسبوعية أن أجواءها لا تقل روحانية عن رمضان، بل ربما تزيد في بعض الوجوه، لأن الصائمين في الاثنين والخميس لا يفعلون ذلك بدافع الفريضة وإنما ابتغاءً للتقرب إلى الله بالنوافل؛ فالإفطار في الحرم بعد صيام التطوع يأخذ طابعاً مختلفاً، حيث يلتقي الإخلاص الفردي بالروح الجماعية، ويجد المرء نفسه يعيش لحظة مركّبة من السكينة الداخلية والتواصل الإيماني مع الآخرين، وكثير من الزوار يحرصون على هذه التجربة تحديداً لأنها تمنحهم شحنة روحية متجددة قبل دخول مواسم العبادة الكبرى.
مبادرات العطاء والخدمة
من الجوانب اللافتة أيضاً في إفطار الاثنين والخميس بالحرم هو دور أهل مكة والمتطوعين في تنظيم وتوزيع وجبات الإفطار، فكما هو الحال في رمضان، تجد مبادرات فردية وجماعية تحرص على أن يصل الطعام والماء لكل صائم، ولا يتعامل الناس هنا مع الإفطار كعادة اجتماعية فقط؛ بل كتعبير عن خدمة بيت الله وخدمة عباده، وهذه الصورة تتكرر أسبوعاً بعد آخر، حتى أصبحت عادة راسخة يعرفها كل من اعتاد التردد على الحرم، وهي أيضاً نافذة مهمة للتذكير بأن العبادة ليست محصورة في الصلاة فحسب، وإنما في البذل والعطاء ومشاركة الخير.
السكينة الممتدة طوال العام
إن مشهد إفطار الصائم في الحرم المكي يومي الاثنين والخميس يحمل دلالات عميقة تتجاوز فكرة الطعام والشراب؛ هو تجسيد لمعنى الجماعة، وتذكير دائم بروح رمضان الممتدة على مدار العام، وتجربة إيمانية تعيد تشكيل علاقة المسلم بالزمان والمكان، قد يخرج الصائم من الحرم بعد الإفطار وهو يشعر بأن يومه لم ينته، بل بدأ من جديد بطاقة روحية عالية، وكأن بركة المكان والزمان اجتمعتا في لحظة واحدة، ولهذا يظل هذا الإفطار الأسبوعي أحد أسرار السكينة التي يجدها الناس في مكة، وأحد الملامح التي تجعل الحرم بيتاً للروح قبل أن يكون بيتاً للجسد.