المدينة المنورة.. تلك المدينة التي توصلها القلوب قبل الأقدام حتى تشعر بأنها في حضن الرحمة، في أزقتها سكينة لا تُشبه سكينة أي مكان، وفي أجوائها عبق يروي الحنين إلى أيام النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام، المدينة المنوّرة ليست مجرد بقعة مقدسة، بل مدرسة مفتوحة للعطاء، يتعلّم فيها الزائر كيف يكون الإحسان عادةً لا استثناء.
المدينة التي استقبلت المهاجرين واحتضنتهم، لم تغيّرها القرون ولا تغيّرت رسالتها؛ فكل زاوية فيها تذكّر بمعنى الضيافة الحقيقية، حين تكون القلوب قبل الأيدي مفتوحة، ومن تلك الروح النبوية انطلقت قيم الخدمة والعناية والرفادة، لتصبح المدينة رمزًا للكرم الذي لا يعرف انقطاعًا.
في المدينة المنوّرة، لا يتوقف العطاء عند حدود العبادة، بل يمتد ليشمل تفاصيل الحياة اليومية؛ السقيا، والإطعام، والاهتمام بالضيف، ليست أعمالًا عابرة بل امتدادٌ لتلك السنة المباركة التي أرساها رسول الله ﷺ حين جعل خدمة الزائرين شرفًا وعبادة. هنا، تتجلّى الإنسانية في أبهى صورها؛ إذ يجتمع الإيمان بالعمل، والعطاء بالنية الطيبة، والاهتمام براحة الآخرين قبل النفس.
ولأن المدينة المنوّرة هي المحطة التي تسبق الوصول إلى بيت الله الحرام، فقد أصبحت بوابة الرحمة الأولى لضيوف الرحمن، فمن هنا تبدأ رحلة الضيف في ضيافة الروح والجسد، ومن هنا يتعلّم معنى التهيؤ للقاء الله، في كل يدٍ تمتدّ بخدمة حاجّ أو معتمر، وفي كل كوب ماء يُقدَّم، وفي كل وجبة تُعدّ بحب، تكتمل دائرة الخير التي ترسمها المدينة منذ قرون.
تبقى المدينة المنوّرة منبعًا يفيض بالعطاء، لا يميّز بين مرتاديه، هي مدينة تُربّي في أهلها حبّ البذل، وتعلّم الداخلين إليها أن العطاء الحقيقي ليس فيما نمنح، بل فيما نزرع من أثر، ومن روحها يتواصل الخير الذي يعبُر الزمن والمكان، ليذكّرنا بأن الضيافة ليست مهنةً فحسب، بل رسالة سامية تفيض من قلب المدينة إلى قلوب العالم أجمع.